دراسات إسلامية

 

 

المساجد . . دورها في الإسلام ماضياً وحاضراً

 

بقلم :  أسامة نور القاسمي

الباحث في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة دهلي

 

 

 

للمساجد في تاريخ الدعوة الإسلامية شأن عظيم؛ فهي «بيوت الله عز وجل » يُعْبَد فيها وحده ليلاً ونهارًا، فهو القائل: «وَأَنَّ الْـمَسَاجِدَ لله فَلاَ تَدْعُوْا مَعَ اللهِ أحَدًا» (الجن:18). وهو القائل: «في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلوٰةِ وَإِيْتَاءِ الزَّكوٰة يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيْدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (النور: 36، 37، 38).

     والمساجد محلُّ راحة المسلمين النفسيّة، فيه تطمئن قلوبهم، وترتاح نفوسهم، وتتزكى نياتهم، وتترقى روحانيتهم، وتعلو همهم، وتتقوى عزيمتهم، وتتسامى إرادتهم للعلم والعمل؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لبلال رضي الله عنه عندما يحين وقت الصلاة: «أَرِحْنَا بها يا بلال»! والمساجد محلّ تلاوة القرآن وتدبر أحكام السنة والقيادة والقضاء والتشاور والعلم والتعلم والتخطيط لكل ما يهم الإسلام والمسلمين.

     والإنسان فيها ضيف كريم على رب العزة والجلال، يكرمه بالتوبة والمغفرة، وينزل عليه سحائب رحمته وجزيل ثوابه وفيض نعمائه، ويشمله بكل ما يسعد دنياه ويعمر آخرته.

     ولكن كثيرًا من الناس في هذا العصر يحاولون الترويج لفكرة أن المؤسسات العليمية، مثل الجامعات والمدارس والمعاهد قد قَلَّصَتْ من دور المساجد؛ لأنها قد اضطلعت بدورها، فأصبحت رسالة المسجد قاصرةً فقط على أداء الصلوات الخمس، والحق أن هذه الفكرة خاطئة. فالمسجد أمرها عظيم وتاريخ الدعوة الإسلامية ممتدّ بإذن الله إلى يوم القيامة، والمسجد سيظل كما كان معقد أرواح المسلمين، ومرجعهم في كل خير.

     إن النبي صلى الله عليه وسلم حينما هاجر من مكة إلى المدينة المنورة كان أول عمل قام به هو بناء المسجد الذي أثنى الله عز وجل عليه بقوله: «لَـمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيْهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوْا وَاللهُ يُحِبُّ الْـمُطَّهِّرِيْنَ» (التوبة: 108)، إشارةً إلى مسجد قباء الذي كان أول مسجد في الإسلام، وله مكانة تاريخية ظلت وستظل ماثلة في ذاكرة المسلمين عالقة بقلوبهم، تزودهم بعاطفة عملية إيمانية جيّاشة.

     ثم بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي عندما استقر بالمدينة المنورة. وإنما بناه؛ ليكون جامعة تُجَسِّد الأخوةَ والمساواةَ والحبَّ والتعاون والوئام بين المهاجرين والأنصار، وليكون مكاناً مُقَدَّساً لتعليم الدين الحنيف والأخلاق الفاضلة الإسلامية؛ وليكون محلاً للعبادة من صلاة وتلاوة للقرآن الكريم وتعليمه ولسماع العظات الغالية من الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي لاينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يُوْحَىٰ.

     كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل فيه الوفودَ التي تفد إلى مدينة الرسول لتتعلم شرائع وأحكام الإسلام وتتفقه في دين الله، وأيضاً كانت تُعْقَد فيه مجالس الشورى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانت تُرْسَمُ فيه خطط الدولة الإسلامية وسياستها، وكانت تُعْقَد ألويةُ الجهاد لقادة الجيوش بالإضافة إلى أنه كان مقرًا للقضاء ومواساة الفقراء وإطعام الغريب، وتفقّد ذوي الحاجة، وفيه كان النبي صلى الله عليه وسلم يصدر التوجيهات إلى أصحابه فيما يهم من أمر الإسلام والمسلمين.

     ولقد ظلت المساجد الإسلاميّة تؤدي دورها الذي ذكرنا بعضَه قروناً طويلة، مثل ذلك الجامع الأزهر ومسجد عمرو بن العاص بمصر، وجامع الزيتونة بتونس، والقرويين بالمغرب، وقبل كل ذلك المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوي بالمدينة، وهناك مساجد كثيرة لاحصر لها في جميع الدول الإسلاميّة وغير الإسلاميّة تؤدي دورًا هامًّا في حياة المسلمين وتَرْعَىٰ جميعَ مصالحهم وتقوم بشؤونهم خير قيام.

     وكان المسلمون حينما تنزل بهم نازلة أو تقع عليهم نكبة يسارعون إلى المساجد فيجدون فيها الروحانية العظيمة التي كانت تدفعهم إلى النضال والثبات؛ فقد يكون قد اعتلى منبر الجامع شيخ من شيوخهم كان يؤكد وحدة الأمة وتماسكها فحققوا ما يريدون.

     وإنه اليوم مثل الأمس من الواجب على المسلمين جميعًا أن يهتموا بالمساجد وبدورها وأن يساهموا في عمارتها؛ لأن عمارتها من أشرف الأعمال، فهي مهمة الأتقياء والصلحاء في كل زمان بل الأنبياء، يقول ربّ العزة: «وَعَهِدْنَا إِلٰى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكَفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ» (البقرة/125). ويقول: «إِنَّما يَعْمُرُ مَسٰجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلوٰة وَآتَى الزكوٰةَ وَلَـمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ» (التوبة/18). وعمارةُ المساجد لا تقتصر على بنائها وإنما يتصل بذلك تنظيفها والاهتمام بإزالة القاذورات وإخراج الأذى منها؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخرج أذىً من المسجد، بنى الله له بيتاً في الجنة».

     ومن المفيد بأن تلحق بالمسجد مرافق إسلاميّة تربوية وثقافية واجتماعية ويلحق به مكتبة عامة وقاعة محاضرات واجتماعات ومراكز إرشاد ومدارس لتحفيظ القرآن وأمكنة لضيافة الغرباء وإيواء من لا ملجأ له قد وردَ القريةَ أو المدينة لايعرفه فيها أحد ولا يعرف هو أحدًا فيها.

     والمسلمون الصادقون والصالحون هم الذين يحثّون المسلمين على الذهاب إلى المساجد وأداء الصلوات في جماعة، وبيان أن ذلك من علامات الصلاح والتقوى، فقد أخبر الرسول أننا إذا رأينا الرجل يرتاد المساجد فلنشهد له بالصلاح، وأنه إذا تطهر الإنسان في بيته ثم ذهب إلى المسجد للصلاة فهو في سبيل الله حتى يرجع، ويثيبه الله على كل خطوةٍ حسنةً، ويمحو بهذه الخطوات الخطايا والذنوب.

     إن المساجد منارات علم وثقافة وعبادة وإدارة عامة لكل شؤون الحياة الممكنة فيها، فالواجب تهيئتها أحسن التهيئة وإعدادها أعظم الإعداد؛حتى تكون في استقبال المسلمين في جميع مراحل الحياة. وكل هذا يُؤَلِّف بين المسلمين ويُقَوِّي ارتباطهم بالمسجد، ويجعل قلوبهم متعلقةً به؛ حتى يكونوا من السبعـة الذين يظلهم الله بظله يوم لاظل إلاّ ظلهُ.

     وبذلك كله فالمساجد ظلّ لها دورها الكبير وسيظلّ في تخريج المسلمين على ما يريده الله تعالى ورسوله من الفضائل والمزايا التي تميزهم عن غيرهم من أمم الأرض في المظهر والمخبر. والحاجةُ ماسة أن يتعلق المسلمون اليوم بالمساجد كما تعلق به سلفهم؛ فلن يصلح آخر هذه الأمة إلاّ بما صلح به أوّلها.

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الأول 1434 هـ = يناير ، فبراير 2013م ، العدد : 3 ، السنة : 37